الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)
.فصل جَوَازُ مُبَاغَتَةِ الْمُعَاهِدِينَ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ: وَفِي هَذِهِ الْقِصّةِ جَوَازُ مُبَاغَتَةِ الْمُعَاهِدِينَ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَالْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْأَلّا يُعْلِمَهُمْ بِمَسِيرِهِ إلَيْهِمْ وَأَمّا مَا دَامُوا قَائِمِينَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِك حَتّى يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ..فصل اسْتِحْبَابُ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ لِرُسُلِ الْعَدُوّ إذَا جَاءُوا إلَى الْإِمَامِ: وَفِيهَا: جَوَازُ بَلْ اسْتِحْبَابُ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوّتُهُمْ وَشَوْكَتُهُمْ وَهَيْئَتُهُمْ لِرُسُلِ الْعَدُوّ إذَا جَاءُوا إلَى الْإِمَامِ كَمَا يَفْعَلُ مُلُوكُ الْإِسْلَامِ كَمَا أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِيقَادِ النّيرَانِ لَيْلَةَ الدّخُولِ إلَى مَكّةَ، وَأَمَرَ الْعَبّاسُ أَنْ يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ وَهُوَ مَا تَضَايَقَ مِنْهُ حَتّى عُرِضَتْ عَلَيْهِ عَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ وَعِصَابَةُ التّوْحِيدِ وَجُنْدُ اللّهِ وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ خَاصِكِيّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ فِي السّلَاحِ مِنْهُمْ إلّا الْحَدَقُ ثُمّ أَرْسَلَهُ فَأَخْبَرَ قُرَيْشًا بِمَا رَأَى..فصل جَوَازُ دُخُولِ مَكّةَ لِلْقِتَالِ الْمُبَاحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ: مَكّةَ لِلْقِتَالِ الْمُبَاحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ كَمَا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا خِلَافَ أَنّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ أَرَادَ الْحَجّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلّا بِإِحْرَامٍ وَاخْتُلِفَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الدّخُولُ لِحَاجَةٍ مُتَكَرّرَةٍ كَالْحَشّاشِ وَالْحَطّابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ دُخُولُهَا إلّا بِإِحْرَامٍ وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَالشّافِعِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.وَالثّانِي: أَنّهُ كَالْحَشّاشِ وَالْحَطّابِ فَيَدْخُلُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشّافِعِيّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.وَالثّالِثُ أَنّهُ إنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ جَازَ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَوَاقِيتِ لَمْ يَدْخُلْ إلّا بِإِحْرَامٍ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَدْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعْلُومٌ فِي الْمُجَاهِدِ وَمُرِيدِ النّسُكِ وَأَمّا مَنْ عَدَاهُمَا فَلَا وَاجِبَ إلّا مَا أَوْجَبَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمّةُ..فصل فُتِحَتْ مَكّةُ عَنْوَةً وَالْخِلَافُ فِي قَسْمِ الْغَنَائِمِ: وَفِيهَا الْبَيَانُ الصّرِيحُ بِأَنّ مَكّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ إلّا عَنْ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَسِيَاقُ الْقِصّةِ أَوْضَحُ شَاهِدٍ لِمَنْ تَأَمّلَهُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلَمّا اسْتَهْجَنَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيّ الْقَوْلَ بِأَنّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، حَكَى قَوْلَ الشّافِعِيّ أَنّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً فِي وَسِيطِهِ، وَقَالَ هَذَا مَذْهَبُهُ. قَالَ أَصْحَابُ الصّلْحِ لَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً لَقَسَمَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا قَسَمَ خَيْبَرَ، وَكَمَا قَسَمَ سَائِرَ الْغَنَائِمِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ فَكَانَ يُخَمّسُهَا وَيَقْسِمُهَا، قَالُوا: وَلَمّا اسْتَأْمَنَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَهْلِ مَكّةَ لَمّا أَسْلَمَ، فَأَمّنَهُمْ كَانَ هَذَا عَقْدَ صُلْحٍ مَعَهُمْ قَالُوا: وَلَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً لَمَلَكَ الْغَانِمُونَ رِبَاعَهَا وَدُورَهَا، وَكَانُوا أَحَقّ بِهَا وَجَازَ إخْرَاجُهُمْ مِنْهَا، فَحَيْثُ لَمْ يَحْكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا بِهَذَا الْحُكْمِ بَلْ لَمْ يَرُدّ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ دُورَهُمْ الّتِي أُخْرِجُوا مِنْهَا، وَهِيَ بِأَيْدِي الّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ وَأَقَرّهُمْ عَلَى بَيْعِ الدّورِ وَشِرَائِهَا وَإِجَارَتِهَا وَسُكْنَاهَا، وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهَذَا مُنَافٍ لِأَحْكَامِ فُتُوحِ الْعَنْوَةِ وَقَدْ صَرّحَ بِإِضَافَةِ الدّورِ إلَى أَهْلِهَا، فَقَالَ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ قَالَ أَرْبَابُ الْعَنْوَةِ لَوْ كَانَ قَدْ صَالَحَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَمَانِهِ الْمُقَيّدِ بِدُخُولِ كُلّ وَاحِدٍ دَارَهُ وَإِغْلَاقِهِ بَابَهُ وَإِلْقَائِهِ سِلَاحَهُ فَائِدَةٌ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَلَمَا قَتَلَ مَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ خَطَلٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمَا، فَإِنّ عَقْدَ الصّلْحِ لَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ لَاسْتُثْنِيَ فِيهِ هَؤُلَاءِ قَطْعًا، وَلَنُقِلَ هَذَا وَهَذَا، وَلَوْ فُتِحَتْ صُلْحًا، لَمْ يُقَاتِلْهُمْ وَقَدْ قَالَ فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُولُوا: إنّ اللّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا الْإِذْنَ الْمُخْتَصّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا هُوَ الْإِذْنُ فِي الْقِتَالِ لَا فِي الصّلْحِ فَإِنّ الْإِذْنَ فِي الصّلْحِ عَامّ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ فَتْحُهَا صُلْحًا، لَمْ يَقُلْ إنّ اللّهَ قَدْ أَحَلّهَا لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَإِنّهَا إذَا فُتِحَتْ صُلْحًا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى حُرْمَتِهَا، وَلَمْ تَخْرُجْ بِالصّلْحِ عَنْ الْحُرْمَةِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنّهَا فِي تِلْكَ السّاعَةِ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا، وَأَنّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ سَاعَةِ الْحَرْبِ عَادَتْ إلَى حُرْمَتِهَا الْأُولَى. وَأَيْضًا فَإِنّهَا لَوْ فُتِحَتْ صُلْحًا لَمْ يُعَبّئْ جَيْشَهُ خَيّالَتَهُمْ وَرَجّالَتَهُمْ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَمَعَهُمْ السّلَاحُ وَقَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ، فَهَتَفَ بِهِمْ فَجَاءُوا، فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَتَرْونَ إلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ، ثُمّ قَالَ بِيَدَيْهِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى: اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتّى تُوَافُونِي عَلَى الصّفَا، حَتّى قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا رَسُولَ اللّهِ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَهَذَا مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَعَ الصّلْحِ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدّمَ صُلْحٌ- وَكَلّا- فَإِنّهُ يَنْتَقِضُ بِدُونِ هَذَا. فَكَيْفَ يَكُونُ صُلْحًا، وَإِنّمَا فُتِحَتْ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرّكَابِ وَلَمْ يَحْبِسْ اللّهُ خَيْلَ رَسُولِهِ وَرِكَابَهُ عَنْهَا، كَمَا حَبَسَهَا يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ الصّلْحِ حَقًا، فَإِنّ الْقَصْوَاءَ لَمّا بَرَكَتْ بِهِ قَالُوا: خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ قَالَ مَا خَلَأَتْ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطّةً يُعَظّمُونَ فِيهَا حُرْمَةً مِنْ حُرُمَاتِ اللّهِ إلّا أَعْطَيْتُهُمُوهَا وَكَذَلِكَ جَرَى عَقْدُ الصّلْحِ بِالْكِتَابِ وَالشّهُودِ وَمَحْضَرِ مَلَإٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ فَجَرَى مِثْلُ هَذَا الصّلْحِ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ وَلَا يُكْتَبُ وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْضُرُهُ أَحَدٌ، وَلَا يُنْقَلُ كَيْفِيّتُهُ وَالشّرُوطُ فِيهِ هَذَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ الْبَيّنِ امْتِنَاعُهُ وَتَأَمّلْ قَوْلَهُ إنّ اللّهَ حَبَسَ عَنْ مَكّةَ الْفِيلَ، وَسَلّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنّ قَهْرَ رَسُولِهِ وَجَنَدِهِ الْغَالِبِينَ لِأَهْلِهَا أَعْظَمُ مِنْ قَهْرِ الْفِيلِ الّذِي كَانَ يَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً فَحَبَسَهُ عَنْهُمْ وَسَلّطَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ حَتّى فَتَحُوهَا عَنْوَةً بَعْدَ الْقَهْرِ وَسُلْطَانِ الْعَنْوَةِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَجَلّ قَدْرًا، وَأَعْظَمَ خَطَرًا، وَأَظْهَرَ آيَةً وَأَتَمّ نُصْرَةً وَأَعْلَى كَلِمَةً مِنْ أَنْ يُدْخِلَهُمْ تَحْتَ رِقّ الصّلْحِ وَاقْتِرَاحِ الْعَدُوّ وَشُرُوطِهِمْ وَيَمْنَعُهُمْ سُلْطَانَ الْعَنْوَةِ وَعِزّهَا وَظَفَرَهَا فِي أَعْظَمِ فَتْحٍ فَتَحَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَعَزّ بِهِ دِينَهُ وَجَعَلَهُ آيَةً لِلْعَالَمِينَ. قَالُوا: وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهَا لَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً لَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهَذَا مَبْنِيّ عَلَى أَنّ الْأَرْضَ دَاخِلَةٌ فِي الْغَنَائِمِ الّتِي قَسَمَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بَعْدَ تَخْمِيسِهَا، وَجُمْهُورُ الصّحَابَةِ وَالْأَئِمّةِ بَعْدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَأَنّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي الْغَنَائِمِ الّتِي تَجِبُ قِسْمَتُهَا، وَهَذِهِ كَانَتْ سِيرَةَ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ فَإِنّ بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ لَمّا طَلَبُوا مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ الْأَرْضَ الّتِي افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً وَهِيَ الشّامُ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَالُوا لَهُ خُذْ خُمُسَهَا وَاقْسِمْهَا، فَقَالَ عُمَرُ هَذَا غَيْرُ الْمَالِ وَلَكِنْ أَحْبِسُهُ فَيْئًا يَجْرِي عَلَيْكُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ بِلَالٌ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ اقْسِمْهَا بَيْنَنَا، فَقَالَ عُمَرُ اللّهُمّ اكْفِنِي بِلَالًا وَذَوِيهِ فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ ثُمّ وَافَقَ سَائِرُ الصّحَابَةِ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ- عُمَرَ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِك جَرَى فِي فُتُوحِ مِصْرَ وَالْعِرَاقِ، وَأَرْضِ فَارِسَ، وَسَائِرِ الْبِلَادِ الّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً لَمْ يَقْسِمْ مِنْهَا الْخُلَفَاءُ الرّاشِدُونَ قَرْيَةً وَاحِدَةً. وَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ إنّهُ اسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ وَوَقَفَهَا بِرِضَاهُمْ فَإِنّهُمْ قَدْ نَازَعُوهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ يَأْبَى عَلَيْهِمْ وَدَعَا عَلَى بِلَالٍ وَأَصْحَابِهِ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ- وَكَانَ الّذِي رَآهُ وَفَعَلَهُ عَيْنَ الصّوَابِ وَمَحْضَ التّوْفِيقِ إذْ لَوْ قُسِمَتْ لَتَوَارَثَهَا وَرَثَةُ أُولَئِكَ وَأَقَارِبُهُمْ فَكَانَتْ الْقَرْيَةُ وَالْبَلَدُ تَصِيرُ إلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ صَبِيّ صَغِيرٍ وَالْمُقَاتِلَةُ لَا شَيْءَ بِأَيْدِيهِمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ وَأَكْبَرُهُ وَهَذَا هُوَ الّذِي خَافَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْهُ فَوَفّقَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِتَرْكِ قِسْمَةِ الْأَرْضِ وَجَعَلَهَا وَقْفًا عَلَى الْمُقَاتِلَةِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ فَيْئًا حَتّى يَغْزُوَ مِنْهَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ وَظَهَرَتْ بَرَكَةُ رَأْيِهِ وَيُمْنُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ الْأَئِمّةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيّةِ إبْقَائِهَا بِلَا قِسْمَةٍ فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ عَلَى أَنّ الْإِمَامَ مُخَيّرٌ فِيهَا تَخْيِيرَ مَصْلَحَةٍ لَا تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ قِسْمَتَهَا، قَسَمَهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى جَمَاعَتِهِمْ وَقَفَهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ قِسْمَةَ الْبَعْضِ وَوَقْفَ الْبَعْضِ فَعَلَهُ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ الْأَقْسَامَ الثّلَاثَةَ فَإِنّهُ قَسَمَ أَرْضَ قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ وَتَرَكَ قِسْمَةَ مَكّةَ، وَقَسَمَ بَعْضَ خَيْبَرَ، وَتَرَكَ بَعْضَهَا لِمَا يَنُوبُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الظّهُورِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْشِئَ الْإِمَامُ وَقْفَهَا، وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنّهُ يَقْسِمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ الْمَنْقُولَ إلّا أَنْ يَتْرُكُوا حُقُوقَهُمْ مِنْهَا، وَهِيَ مَذْهَبُ الشّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِمَامُ مُخَيّرٌ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُقِرّ أَرْبَابَهَا فِيهَا بِالْخَرَاجِ وَبَيْنَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ عَنْهَا وَيُنْفِذَ إلَيْهَا قَوْمًا آخَرِينَ يَضْرِبُ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجَ. رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- بِمُخَالِفٍ لِلْقُرْآنِ فَإِنّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي الْغَنَائِمِ الّتِي أَمَرَ اللّهُ بِتَخْمِيسِهَا وَقِسْمَتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ إنّهَا غَيْرُ الْمَالِ وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنّ إبَاحَةَ الْغَنَائِمِ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِ هَذِهِ الْأُمّةِ بَلْ هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا، كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتّفَقِ عَلَى صِحّتِهِ وَأُحِلّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَقَدْ أَحَلّ اللّهُ سُبْحَانَهُ الْأَرْضَ الّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي الْكُفّارِ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنْ أَتْبَاعِ الرّسُلِ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا عَنْوَةً كَمَا أَحَلّهَا لِقَوْمِ مُوسَى، فَلِهَذَا قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [الْمَائِدَةَ 21] فَمُوسَى وَقَوْمُهُ قَاتَلُوا الْكُفّارَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَجَمَعُوا الْغَنَائِمَ ثُمّ نَزَلَتْ النّارُ مِنْ السّمَاءِ فَأَكَلَتْهَا، وَسَكَنُوا الْأَرْضَ وَالدّيَارَ وَلَمْ تُحَرّمْ عَلَيْهِمْ فَعُلِمَ أَنّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْغَنَائِمِ وَأَنّهَا لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ..فصل يُمْنَعُ قِسْمَةُ مَكّةَ لِأَنّهَا دَارُ نُسُكٍ: وَأَمّا مَكّةُ، فَإِنّ فِيهَا شَيْئًا آخَرَ يَمْنَعُ مِنْ قِسْمَتِهَا وَلَوْ وَجَبَتْ قِسْمَةُ مَا عَدَاهَا مِنْ الْقُرَى، وَهِيَ أَنّهَا لَا تُمْلَكُ فَإِنّهَا دَارُ النّسُكِ وَمُتَعَبّدُ الْخَلْقِ وَحَرَمُ الرّبّ تَعَالَى الّذِي جَعَلَهُ لِلنّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ فَهِيَ وَقْفٌ مِنْ اللّهِ عَلَى الْعَالَمِينَ وَهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ وَمِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ قَالَ تَعَالَى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الْحَجّ 25]، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُنَا، الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كُلّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التّوْبَةَ 28]، فَهَذَا الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كُلّهُ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الْإِسْرَاءَ: 1]، وَفِي الصّحِيحِ إنّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمّ هَانِئٍ وَقَالَ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَةَ 196]، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ حُضُورَ نَفْسِ مَوْضِعِ الصّلَاةِ اتّفَاقًا، وَإِنّمَا هُوَ حُضُورُ الْحَرَمِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ وَسِيَاقُ آيَةِ الْحَجّ تَدُلّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنّهُ قَالَ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وَهَذَا لَا يَخْتَصّ بِمَقَامِ الصّلَاةِ قَطْعًا، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كُلّهُ فَاَلّذِي جَعَلَهُ لِلنّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ هُوَ الّذِي تَوَعّدَ مَنْ صَدّ عَنْهُ وَمَنْ أَرَادَ الْإِلْحَادَ بِالظّلْمِ فِيهِ فَالْحَرَمُ وَمَشَاعِرُهُ كَالصّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْمَسْعَى وَمِنًى، وَعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ، لَا يَخْتَصّ بِهَا أَحَدٌ دُونَ أَحَدٍ، بَلْ هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النّاسِ إذْ هِيَ مَحَلّ نُسُكِهِمْ وَمُتَعَبّدِهِمْ فَهِيَ مَسْجِدٌ مِنْ اللّهِ وَقَفَهُ وَوَضَعَهُ لِخَلْقِهِ وَلِهَذَا امْتَنَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُبْنَى لَهُ بَيْتٌ بِمِنًى يُظِلّهُ مِنْ الْحَرّ وَقَالَ مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ..جُمْهُورُ الْأَئِمّةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ أَرَاضِي مَكّةَ وَلَا إجَارَةِ بُيُوتِهَا: وَلِهَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأَئِمّةِ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَرَاضِي مَكّةَ، وَلَا إجَارَةُ بُيُوتِهَا، هَذَا مَذْهَبُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ فِي أَهْلِ مَكّةَ، وَمَالِكٍ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَسُفْيَانَ الثّوْرِيّ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ، قَالَ كَانَتْ رِبَاعُ مَكّةَ تُدْعَى السّوَائِبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ وَمَنْ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ: مَنْ أَكَلَ أُجُورَ بُيُوتِ مَكّةَ، فَإِنّمَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنّمَ رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعًا إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِيهِ إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ، فَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَأَكْلُ ثَمَنِهَا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ، أَنّهُمْ قَالُوا: يُكْرَهُ أَنْ تُبَاعَ رِبَاعُ مَكّةَ أَوْ تُكْرَى بُيُوتُهَا. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ مَنْ أَكَلَ مِنْ كِرَاءِ بُيُوتِ مَكّةَ، فَإِنّمَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ نَارًا. وَقَالَ أَحْمَدُ حَدّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدّثَنَا حَجّاجٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ نُهِيَ عَنْ إجَارَةِ بُيُوتِ مَكّةَ وَعَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا. وَذَكَرَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ نُهِيَ عَنْ إجَارَةِ بُيُوتِ مَكّةَ. وَقَالَ أَحْمَدَ حَدّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَمِيرِ أَهْلِ مَكّةَ يَنْهَاهُمْ عَنْ إجَارَةِ بُيُوتِ مَكّةَ، وَقَالَ إنّهُ حَرَامٌ. وَحَكَى أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ أَنّهُ نَهَى أَنْ يَتّخِذَ أَهْلُ مَكّةَ لِلدّورِ أَبْوَابًا، لِيَنْزِل الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ وَحَكَى عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ نَهَى أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُ دُورِ مَكّةَ، فَنَهَى مَنْ لَا بَابَ لِدَارِهِ أَنْ يَتّخِذَ لَهَا بَابًا، وَمَنْ لِدَارِهِ بَابٌ أَنْ يُغْلِقَهُ وَهَذَا فِي أَيّامِ الْمَوْسِمِ. قَالَ الْمُجَوّزُونَ لِلْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ الدّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ كِتَابُ اللّهِ وَسُنّةُ رَسُولِهِ وَعَمَلُ أَصْحَابِهِ وَخُلَفَائِهِ الرّاشِدِينَ. قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الْحَشْرَ 8]، وَقَالَ: {فَالّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [آلَ عِمْرَانَ 195]، وَقَالَ: {إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الْمُمْتَحِنَةَ 9] فَأَضَافَ الدّورَ إلَيْهِمْ وَهَذِهِ إضَافَةُ تَمْلِيكٍ وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ قِيلَ لَهُ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا بِدَارِك بِمَكّةَ؟ فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ وَلَمْ يَقُلْ إنّهُ لَا دَارَ لِي، بَلْ أَقَرّهُمْ عَلَى الْإِضَافَةِ وَأَخْبَرَ أَنّ عَقِيلًا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَلَمْ يَنْزِعْهَا مِنْ يَدِهِ وَإِضَافَةُ دُورِهِمْ إلَيْهِمْ فِي الْأَحَادِيثِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ كَدَارِ أُمّ هَانِئٍ، وَدَارِ خَدِيجَةَ، وَدَارِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ.وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَهَا كَمَا يَتَوَارَثُونَ الْمَنْقُولَ وَلِهَذَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِل وَكَانَ عَقِيلٌ هُوَ وَرِثَ دُورَ أَبِي طَالِبٍ فَإِنّهُ كَانَ كَافِرًا، وَلَمْ يَرِثْهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لِاخْتِلَافِ الدّينِ بَيْنَهُمَا، فَاسْتَوْلَى عَقِيلٌ عَلَى الدّورِ. وَلَمْ يَزَالُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا، بَلْ قَبْل الْمَبْعَثِ وَبَعْدَهُ مَنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ دَارُهُ إلَى الْآنَ وَقَدْ بَاعَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ دَارًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَاِتّخَذَهَا سِجْنًا، وَإِذَا جَازَ الْبَيْعُ وَالْمِيرَاثُ فَالْإِجَارَةُ أَجْوَزُ وَأَجْوَزُ فَهَذَا مَوْقِفُ أَقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تَرَى، وَحُجَجُهُمْ فِي الْقُوّةِ وَالظّهُورِ لَا تُدْفَعُ وَحُجَجُ اللّهِ وَبَيّنَاتُهُ لَا يُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا بَلْ يُصَدّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهَا كُلّهَا، وَالْوَاجِبُ اتّبَاعُ الْحَقّ أَيْنَ كَانَ.
|